هى اغنية دارت حولها الكثير من القصص والاشاعات حتى تحولت إلى أسطورة.. فليس من الغريب أن يستمع المرء لأغنية فيشعر بحزن عميق ويغرق في بحر من الكآبة إلى درجة أن تنهمر دموعه بلا استئذان، فلعلها أيقظت في نفسه ذكرى جميلة لن تتكرر، أو عاطفة مدفونة في مكان ما من تلابيب القلب. لكن أن تكون الأغنية كئيبة وحزينة إلى درجة أن تؤدي بمستمعيها إلى الموت.. فذلك هو الغريب حقا.
ففي ثلاثينات القرن الماضي، لم تكن أوروبا مكانا جميلا ومسالما كما هي اليوم، بل كان هناك كساد كبير، وكانت الأحزاب الفاشية المتطرفة تستميل إلى صفوفها المزيد والمزيد من الناس الجائعين والعاطلين والناقمين على الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
ولم تكن المجر أو هنغاريا بمنأى عن تلك الأوضاع، بل كانت بلاد تئن من وطأة الفقر، والرجال والشباب مكدسون في الشوارع يتوسلون أي فرصة عمل تعود عليهم بما يسد رمقهم ورمق عائلاتهم. ذلك الجو الكئيب المشحون بالبؤس كان يدفع الناس إلى تصرفات وأفعال وآراء متطرفة، كالسرقة والنهب والعنف والأفكار الفاشية وحتى الانتحار.
وكان لدى المجر واحدة من أعلى معدلات الانتحار في القارة الأوربية العجوز، لذا لم تهتم الشرطة كثيرا عندما تم استدعائها لمعاينة جثة الاسكافي جوزيف كالر الذي كان في العقد الخامس من العمر وأعزب ومريض ومفلس، فلقد مات منتحرا مثل كثيرين غيره، فقد شنق نفسه داخل حجرته الحقيرة الواقعة داخل منزل متهالك في أحد أزقة بودابست المظلمة. من كان سيهتم لرجل مثله؟
المحقق كارل لانكه زار حجرة الاسكافي كأجراء روتيني، وألقى نظرة سريعة على تلك الحجرة الصغيرة الموحشة ذات الرائحة الكريهة، وفي الحقيقة لم يكن هناك ما يسترعي الانتباه في تلك الحجرة، فقد كانت تخلو من الأثاث باستثناء سرير تعلوه أغطية بهت لونها، وإلى جوار السرير هناك منضدة خشبية قديمة كانت تقبع فوقها ورقة مطوية.
أخرج المحقق منديلا من جيبه وألتقط الورقة وفتحها، لم يكن بداخلها سوى كلمتين: الأحد القاتم.. وكانت تشير إلى عنوان أغنية لمطرب مجري يدعى بول كالمار، وكانت أغنية كئيبة جدا، لذا لم يتعجب المحقق لكونها كانت آخر ما خطته أنامل الاسكافي المنتحر.
ولكن ما حسبه المحقق للوهلة الأولى أمرا ليس ذو بال، لم يكن كذلك فعلا، فبعد عدة أيام تم استدعائه مجددا لمعاينة جثة فتاة تدعى ماري، في السابعة عشر من عمرها، ماتت منتحرة بجرعة سم قاتل. وبجوار جثتها الباردة على السرير كان هناك دفتر مذكرات منثور الصفحات.
مرة أخرى اخرج المحقق منديله، ورفع الدفتر برفق، وقلب صفحاته بسرعة وبدون اهتمام، لكن حين وصل إلى الصفحة الأخيرة تغيرت معالم وجهه، لشدة استغرابه كانت آخر عبارة خطتها الفتاة في ذلك الدفتر قبل موتها هي: الأحد القاتم..
وتساءل المحقق مع نفسه، ما قصة هؤلاء المنتحرين مع هذه الأغنية بالذات؟.. ولكن الأيام التالية حملت للمحقق كارل المزيد من المفاجئات إذ تتالت البلاغات عن أشخاص آخرين استمعوا لأغنية "الأحد القاتم" مباشرة قبل انتحارهم، بعضهم فجر رأسه برصاصة، وآخرون رموا أنفسهم في مياه الدانوب الباردة فغرقوا، وقام بعضهم بقطع شرايينهم في الحمام.
وكانت هناك قصة غريبة عن رجل كان يجلس في حانة، وطلب من الساقي أن يشغل له أسطوانة "الأحد القاتم".. وما أن انتهت الأغنية حتى خرج من الحانة ورمى نفسه تحت إطارات أول سيارة مارة.
وهناك قصة أشد غرابة عن صبي كان يقود دراجته بالقرب من ضفاف النهر، عندما سمع متسولا يدندن بأغنية "الأحد القاتم"، ويقال بأن الصبي نزل عن دراجته وأخرج كل ما في جيبه من نقود وحلوي وأعطاها للمتسول، ثم ركض صوب الجسر القريب، وتسلق حافته ورمى بنفسه إلى المياه الباردة من دون أي تردد ليموت غرقا.
هذه الحوادث الغريبة كانت أبعد من أن تكون مجرد صدفة، فقد كان هناك خطب ما في هذه الأغنية، لذا أصبحت بين ليلة وضحاها حديث الصحافة في بودابست، ونالت شهرة واسعة لدرجة أن الشرطة التمست من الحكومة إصدار قانون يمنع بث وتداول الأغنية، لكن الحكومة رأت بأن حظر الأغنية قد يؤدي لنتائج عكسية فيزيد من شعبيتها.
ولم يطل الوقت حتى بدأت الأغنية تحصد أرواحا خارج المجر، ففي برلين عثروا على صاحبة محل بقالة مشنوقة في حجرة نومها، وتحت أقدامها مباشرة كانت تقبع نسخة من أسطوانة "الأحد القاتم". وفي نيويورك انتحرت شابة، وطلبت في وصيتها تشغيل أسطوانة "الأحد القاتم" أثناء جنازتها.
حتى أن شهرة الأغنية المتنامية دفعت إلى ترجمتها وغناءها بالعديد من اللغات الأخرى.. فقد تغني بها العديد من المغنيين بالفرنسية عام 1936، وباليابانية عام 1936، وبالروسية عام 1937، وبالأسبانية عام 1938، أما أشهر من غناها بنسختها الانجليزية فكانت المطربة السمراء بيلي هوليداي عام 1941.
وكلما زادت شهرة الأغنية، كلما زاد عدد ضحاياها حتى تحولت إلى أسطورة، وأصبحت تعرف بأسم أغنية الأنتحار الهنغارية.
ولكن من كان يقف وراء هذه الأغنية المشئومة، ومن الذي بعث الحياة في أوصالها أول مرة؟.. إنه ملحن مجري مغمور يدعى راجو شرش، كان يهوديا طارده النحس والفقر طوال حياته، حتى أنهم ألقوا به في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، فشاهد عائلته وأقاربه يموتون أمام عينيه، وترك ذلك في نفسه أثرا لا يمحى.
ومع أنه نجا من الموت بأعجوبة، إلا أن الحزن والبؤس كان رفيقه الحميم حتى آخر لحظة في حيات . وكانت أغنية "الأحد القاتم" هي الأغنية الوحيدة الناجحة في مسيرته الفنية، ولكنه كان نجاحا مشئوما مذموما، حتى أنه قال عنه:
"أقف في خضم هذا النجاح القاتل وكأني متهم، هذه الشهرة المميتة تسببت لي بالألم، جميع خيبات الأمل التي طاردت قلبي بكيتها في هذه الأغنية، ويبدو أن هناك آخرين شعروا مثلي ووجدوا فيها آلامهم وأحزانهم الخاصة."
والواقع أنه قد تعددت وتضاربت الروايات حول قصة الأغنية، والقصة الأكثر شيوعا تقول بأن ملحن الأغنية كان قد تخاصم مع حبيبته، وبعد فترة حاول أن يصلح الأمور معها، فتوجه في ذات يوم أحد إلى منزلها وهو يحمل باقة ورود بيضاء، وكان متلهفا جدا لرؤية حبيبته، ولكن هناك عند باب الحبيبة كانت تنتظره مفاجئة صادمة، فقد كان هناك رجال متجهمين ونساء تنتحب وقد ارتدى الجميع ثيابا سوداء.
لم يسأل أبدا ما الذي جري، ولم يكلم أحدا، فقد كان الباب مشرعا فدخل إلى المنزل بقدمين واهنتين، ومضى يترنح بين البواكي والنائحات، وفي وسط حجرة الجلوس عثر على حبيبته أخيرا.. كانت مستلقية داخل تابوت مفتوح، جثة بلا حراك، وكانت قد ماتت منتحرة صباح ذلك الأحد القاتم.
أوجاع الملحن الشاب تحولت إلى صرخة موسيقية مشبعة بالبؤس ومسكونة بظلال سوداء موحشة. وجاء صديق الملحن، الشاعر لازلو جافور، ليضيف من عنده لمسة أخرى مفعمة بالكآبة حين كتب قصيدة ملئها بالحسرة واليأس ليتم تركيبها على ذلك اللحن الحزين.
ولكن هناك من يقول بأن الشاعر لازلو كان هو صاحب القصة، فهو الذي ماتت حبيبته وليس الملحن، بينما يرى آخرون بأن القصة برمتها مختلقة ولا أساس لها من الصحة، وأن الأغنية هي في الواقع نتاج أوضاع وظروف مأساوية كانت سائدة في ذلك العصر.
وبالطبع هناك من يزعم بأن كل قصص الانتحار لا أساس لها من الصحة ومختلقة من قبل الصحافة وأولئك المولعين بالإثارة والغرائب، وحتى لو كان هناك أناس انتحروا حقا بعد استماعهم للأغنية فذلك ليس بسبب الأغنية في حد ذاتها، وإنما بسبب الظروف الصعبة التي كانت سائدة في الغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين.
فيما يرى آخرون، بأنه لا يوجد ما يمنع كون الأغنية تسببت فعلا في زيادة نسبة الانتحار بسبب كلماتها الحزينة التي تبعث في النفس شعورا بعبثية الحياة، وبأن الموت أفضل وأرحم من تحمل آلمها وويلاتها.
ولكن ما يؤكد هذه القصة هو أن هيئة الإذاعة البريطانية BBC قد حظرت بث الأغنية خلال الأربعينات من القرن المنصرم، ولم ترفع الحظر إلا في السنوات الأخيرة، وكذلك فعلت بعض المحطات الإذاعية في أوروبا والولايات المتحدة. وقد بررت أدارة الـ BBC حظر الأغنية بأنها كئيبة جدا، خصوصا في حقبة كان الدمار والبؤس يلف فيها كافة أرجاء القارة الأوروبية.
ولكن أعجب ما في القصة، هي نهاية الملحن نفسه.. فلقد مات انتحارا وبصورة مأساوية، عندما لم يعد يطيق النحس الذي واكب حياته، والألم الذي تجرعه حتى في عز نجاحه، فالشيئ الوحيد الذي حقق له الشهرة والمجد، كان هو في حد ذاته أكثر ما آلمه وآذاه، ودمرته تلك الاتهامات في أنه كان السبب وراء انتحار الناس، وأثقلت وجدانه بشعور طاغي بالذنب.
وأخيرا.. في ظهيرة يوم "احد قاتم" من عام 1968، بعد الاحتفال بعيد ميلاده التاسع والستين، رمى الملحن راجو شرش نفسه من نافذة شقته في بودابست، ولكن المفارقة هو أن النحس لازمه حتى في انتحاره، فعلى الرغم من أنه رمى بنفسه من عمارة شاهقة إلا أنه لم يمت، فقد نقلوه إلى المستشفى ونجا من السقطة ببعض الجروح والكسور، وقاموا بعلاجه وهو يبكي متوسلا الموت، وحين حل المساء تركوه في حجرته بالمستشفى فزحف عن سريره، وبكل ما تبقى له من قوة سحب سلكا كهربائيا عن الجدار ولفه حول عنقه ثم طوح بجسده بعيدا.. وفي صباح اليوم التالي عثرت الممرضات على الملحن راجوا شرش مشنوقا في حجرته بسلك كهربائي .. فقد قرر أن ينهي الأمر كله.